ستبقى الاضرار العمرانية هي التسجيل الحي لما تخلفه الحروب والنزاعات المسلحة من دمار وخراب وفي مقدمتها تلك الاضرار التي شهدتها المباني التراثية والتاريخية التي شكلت أوجهاً من الأنشطة الإنسانية في فترات مختلفة و ذاكرة وهوية للمجتمعات , لذا فان تدميرها هو احد ابشع صور التدمير والخراب الذي يمكن ان تخلفه تلك الحروب والنزاعات , ففي دراسة قدمت الى الامم المتحدة بعد الاحداث التي تلت احتلال داعش لمدينة الموصل العام 2014 وماشهدته من خراب وتدمير(إن تدمير العمارة الإسلامية في الموصل له عواقب قاتلة لا يمكن الرجوع عنها لكل من التراث الثقافي العالمي والبيئة الحضرية للموصل اذ تم إزالة المعالم المعمارية التي شكلت بانوراما فريدة للمدينة (على سبيل المثال ،مسجد النبي يونس في نينوى ، مرقد الإمام يحيى بن القاسم ،مسجد النبي شيت ومسجد الخضر). اي تقريبا جميع المساجد والأضرحة التي أقيمت في عهد بدر الدين لؤلؤ (1259) والتي تمثل “مدرسة الموصل” للعمارة في العصور الوسطى ، تم مسحها من المدينة. بينما كانت تمثل هذه المدرسة توليفة من الأشكال المعمارية المسيحية والاسلامية الفريدة من نوعها في العالم الإسلامي واختفت بذلك المساجد العثمانية المبكرة (القرنين السادس عشر والثامن عشر الميلاديين) والتي كانت في السابق واحدة من أكثر المراكز التاريخية جاذبية في الشرق الأدنى ، وفقدت الكثيرمن العناصر التي خلقت أصالتها.ومنها إزالة منهجية للعديد من الاضرحة وأماكن العبادة ، كوسيلة لاذلال المدينة وتراثها وتاريخها , لذا علينا ان نسال انفسنا كيف نستفيد من تجارب الاخرين في اعادة اعمار مدننا المتضررة ؟ومالذي يمكن ان تقدمه لنا تجاب المدن السابقة وسكانها في اعادة اعمار مدننا اليوم ؟
حماية العمارة ونتاجها المادي
تمثل العمارة سجلا بصريا وفكريا للوجه الحضاري والثقافي وانعكاسا للقيم الفكرية والاجتماعية والجمالية المتوارثة في المجتمعات, وهي احد صور الموروث المعماري الحضاري للمدن وشاهدا مهما من شواهدها عبر التاريخ , بل انها مرآة لماضي وحاضر المجتمعات , ولطالما مثلت نتاجاتها المادية سجلا يدون عليه حياة الانسان الذي يعيش في هذا المجتمع , لذا نجد ان القوانين والتشريعات حافظت على هذا النتاج المميز تاريخيا وتراثيا , فنجد ان وثيقة فينيسيا عام 1964 تعاملت مع قضية الاثار على انها ليست عبارة عن مباني منفردة مبعثرة بل هي مباني متكاملة مع بعضها في سياق معينة يربطها نسيج موحد وتؤطرها الاحداث التاريخية للمنطقة, وبذلك فانه سيتم الاستفادة من القيم والعادات الاجتماعية التاريخية من خلال اعادة بثها , وبعد ذلك توالت المواثيق والاتفاقيات الدولية والاقليمية في مسالة التعامل مع المعالم والمواقع الاثرية كاتفاقية امستردام عام 1975 ووثيقة واشنطن عام 1987للحفاظ على المدن الاثرية والمناطق الحضرية التاريخية وغيرها الكثيرلم نتطرق لها لكثرتها مؤكدة على اهمية المعالم التراثية والتاريخية في حياة الشعوب وضرورة اعادة احياءها من خلال ابراز جانبها الجمالي والتاريخي الدلالي وكونها انعكاسا للقيم الاجتماعية للمجتمعات وهذا يتم من خلال الحفاظ على المتبقي وصيانته واعادة انشاء المتهدم والمتضرر وفق مايلائم كل موقع تاريخيا وعمرانيا وانشائيا واهمية الاستفادة من تلك المواقع سياحيا واقتصاديا.
اذا مانظرنا للتاريخ سنجد ان وارسو هي مدينة نهضت من الركام , تحدث عنها التاريخ لماذا ؟ لان الإصرار على إعادة بناء المدينة المدمرة كما هي، بناءً تفصيليا لجميع المباني والعناصر ذات القيمة الاعتبارية، والعلامات المميزة والرموز والكنائس والبيوت والأسواق وفي خلال عملية البناء تم الأخذ بعين الاعتبار استخدام مواد البناء الأصلية في حال وجدت، كحجارة البناء القديمة والتي أخرجت من بين الانقاض وأعيد اصلاحها، ومن ثم محاولة التعرف على الأماكن الأصلية لها واعادتها اليها، وقد تم جمع كل الأدلة والشواهد التي تدل على الماضي للاستعانة بها في إعادة الإعمار ليكون طبق الأصل، سواء كانت صورًا خاصة عند الناس أو في الأرشيف أو صور ووثائق في الكتب أو مخططات أو شهادات الناس، واعيد بناء المدينة كما كانت بتاريخها وماضيها، ومواد البناء القديمة، لتكون شاهدا على تاريخ وهوية وارسو، ومعاناة أهلها والدمار الذي تعرضت له.
وبعد نهاية الحرب تم إخراج الوثائق والتي كانت بحالة جيدة وسليمة، وتم استخدامها كأساس في إعادة بناء المدينة بين 1945- 1966وتم خلال هذه الفترة بناء حوالي 85 % من المدينة المتضررة , وقد كانت المباني التاريخية في المدينة تفتقر أغلب الأحيان إلى الراحة ومواكبة متطلبات العصر الحديث، لذلك تم في بعض الأحيان إعادة بناء الواجهات الخارجية بحالتها الأصلية، ولكن تم تعديل التقسيم الداخلي، لاستيعاب متطلبات العصر الحديث، وتوفير الخدمات التي احتاجتها تلك المباني.
الخلاصة :
ان المدن الحية و المتاصلة في جذورها العريقة تمتلك في خزائنها موروثا حضاريا وثقافيا ومعماريا يجب استحضاره ومحاكاته سواء في مرحلة الاعمار او التطوير وهي موجودة اولا و متاصلة في اذهان اهلها بشكل لن تمحيه اثار الدمار والخراب, ومدننا هي مدن حية ومتاصلة بعمق التاريخ ومتجذرة في احضان ارض الرافدين لذا فان نظرة الى تجارب المدن التاريخية تعطينا مفاتيح لما يمكن ان تكون عليه عملية اعمار مناطقها التراثية القديمة ومنها مدينة الموصل القديمة ومبانيها التراثية, التي تعرضت هذه البؤرة التقليدية الى الدمار والتخريب الأمر الذي انعكس سلبا على هيئاتها الحضرية ومكوناتها العمرانية، وسبب الكثير من الإرباك على كافة المستويات اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وديموغرافيا مما يتطلب وقفة جادة للتعامل معها.
وهو مايتطلب منا التعمق في دراسة وتحليل القيم الجوهرية الاصيلة التي نشات عليها المدينة وخاصة في بؤرتها القديمة النابضة بالتراث والاصالة ومراعاة ذلك عند اعمار المباني بما يحافظ على اصالة وتماسك نسيجها العمراني و امكانية الاستفادة من التقنيات الحديثة والبرامجية في اعادة توصيف وتوثيق تلك المباني للاستفادة منها في اعادة الاعمار ومنها البرامجيات المعمارية الحديثة .
المصادر
قصاب، رامي، المواثيق الدولية التي ظهرت للحفاظ على التراث العالمي، دمشق، 2006
IInd International Congress of Architects and Technicians of Historic Monuments, Venice, 1964
Akram Ijla , Tor Broström, (2015),The Sustainable Viability of Adaptive Reuse of Historic Buildings: the experiences of Two World Heritage Old Cities; Bethlehem in Palestine and Visby in Sweden ,International Invention Journal of Arts and Social Sciences (ISSN: 2408-7238) Vol. 2